الشهيد المجاهد “علي موسى سمور”
الإعلام الحربي – خاص
الشهداء هم قادتنا وسادتنا والسابقون أبداً إلى مرضاة الله ومجد الأمة وكرامة الأجيال، فهم من يستحقون أن ندوّن أسماءهم ومواقف عزّهم ورجولتهم؛ لنصنع منها سجلّا لحياة الأمة، ووسام الكرامة والبسالة لأبنائها وبناتها، وأولئك هم شهداء فلسطين الرجال، الذين لم يراودهم الزمن في ليل المحنة، ولم يساوموا على شرف الأمة، واقتحموا ميادين القتال الصعب ودروب المواجهة الوعرة، إلى أن بلغوا بأجسادهم مرتقى الشهادة وسدّة المجد والتضحية.
حكاية عاشق الجنان
سنوات مضت على استشهاد علي موسى سمور”أبو الحسن”، ولا زالت ذكراه حاضرة بقوة في وجدان أبناء شعبه الذين خرجوا عن بكرة أبيهم عندما سمعوا خبر استشهاده مكبرين، ليجدّدوا البيعة مع الله على المضي قدماً في هذا طريق المكلل بالعز والفخار.. فكان رحيله كما أحب أن يكون وتمنى. وعلى الرغم من حياته القصيرة على هذه البسيطة، فإنه ترك أثراً كبيراً في نفوس محبيه، فكان نعم الشاب المؤمن الزاهد في الدنيا الراغب فيما وعد الله عباده الصادقين من نِعَمِ الثواب والأجر العظيم، فلم تحِدْ بوصلته يوماً عن طريق ذات الشوكة، فكان أمله في الحياة أن يبقى قابضاً على سلاحه مرابطاً على ثغر من ثغور الإسلام، ورغم قسوة الحياة وصعوباتها لم تفارق الابتسامة شفتيه، ولم يغب الحياء في ممشاه، ولسان حاله دوماً يقول: “من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو أحسن منه”.
الحنين للوطن
فوق أطهر بقعة على الأرض وبعيداً عن أرض فلسطين المباركة، كان بزوغ فجر ميلاد الشهيد الفارس علي سمور في المملكة العربية السعودية يوم 04/12/1982م، حيث كانت والدته تعمل مدرسةً، بينما كان والده يعمل في مجال الإنشاءات والبناء، فعاش الشهيد رغم حياة الرفاهية التي يعيشها السّواد الأعظم في دول الخليج لوعة وألم الغربة والبعد عن الوطن الحبيس، الذي يشاهد ما يدور فيه من أحداث وجرائم يرتكبها العدو الصهيوني بحق أبناء شعبه وأرضه ومقدساته عبر شاشات التلفاز، فتأكله الغيرة والرغبة بالثأر.
لقد كان يحلم بذاك اليوم الذي سيعود فيه إلى وطنه وإلى بيت أسرته في مخيم اللجوء، حيث تعيش عائلته المهجرة في البيوت ذات الأسقف “الكرميدية” والأزقة الضيقة، يحذوهم الأمل صباح مساء في العودة إلى قريتهم “نعليا” الساحرة الخلابة بأشجارها وكرومها التي هجرّوا منها عنوة. وكما كل فلسطيني، نشأ الشهيد في أسرة كريمة ملتزمة مؤمنة، ربّت فلذات أكبادها على حب العطاء، وتتكون أسرته البسيطة من والديه وأربعة من الإخوة وثلاث أخوات، وقدر الله أن يكون ترتيبه الثاني.
القدوة الحسنة
كان الشهيد علي مثالاً للعلاقة الأسرية في تواضعه وتذلُّله لأمه وأبيه، فكان يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، حريصاً على دعوة إخوته وأصدقائه للصلاة وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم.
كان ببساطة وكل وضوح مثالاً للإنسان المسلم العارف بربه، ويشهد له كل من عرفه بالتقوى والصلاح والإخلاص، فقد كان أول الداخلين لصلاة الفجر في المسجد وآخر الخارجين منه، كما كان مواظباً على أداء الصلوات الخمس جماعة بالمسجد “الأبيض” في المخيم، وفي ذات السياق يضيف والده -أبو محمد-: “كثيراً ما كنت استيقظ في الليل عليه وهو يقرأ القرآن ويقيم الليل، فأشفق عليه وأدعوه للنوم برهة من الوقت؛ لأن أمامه يوما دراسيا شاقا”.
أمّا رفاقه، فقد أطلقوا عليه لقب “فارس صلاة الفجر”؛ لأنه كان يسبقهم دوماً إليها، وفي كثير من الأحيان كان يوقظهم لصلاتها وأداءها، مشيدين بدوره العظيم في دعوة عديدٍ من الشباب إلى الالتزام في أداء الصلوات الخمس بالمسجد.
في حين هذا كله، لم تجد والدته -أم محمد- خلال حديثها عن صفات الشهيد “علي” في جعبتها من الكلمات ما يمكن أن تصف بها أخلاق أحبّ أبنائها إلى قلبها، لتقول بصوتها الخافت الحزين: “منذ طفولته كان هادئاً مطيعاً مهذباً جميلاً، ومتميزاً بين أقرانه بأخلاقه العالية الرفيعة وذكائه وفطنته؛ مما جعله محبوباً من الجميع”.
وتكمل الوالدة الصابرة حديثها: “كان كثيراً ما يساعدني وشقيقه البكر محمد في أعمال البيت، وشراء الخضروات وكل ما يلزمنا من السوق”، لافتةً إلى ما كان يتمتع به الشهيد من روحٍ مرحة وابتسامة غيّبها استشهاده، بالإضافة إلى تميزه بالجرأة والإصرار على تحقيق أهدافه مهما بلغت الصعوبات والتحديات.
دراسته
درس الشهيد “علي” المرحلة الابتدائية في المملكة العربية السعودية، ثم أكمل دراسته للمرحلة الإعدادية في مدارس وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين بمخيم الشاطئ بعد عودته إلى أرض الوطن، ثم اجتاز المرحلة الثانوية بنجاح، ليلتحق بعدها بالجامعة الإسلامية في “كلية العلوم، تخصص جيولوجيا”، فكان استشهاده وهو في السنة الثالثة.
وتؤكد والدته أنها لا زالت تحتفظ بشهادات تفوقه عن كل مرحلة من مراحل دراسته، مشيرةً إلى أنها علمت بعمله الجهادي قبل فترة وجيزة من استشهاده، إلا أنها لم تشأ أن تمنعه عن مواصلة هذا الطريق الذي آمنت به، رغم المخاطر الكبيرة التي كانت تلاحق من يسيرون فيه.
وبيّنت أنها في أيامه الأخيرة كانت حريصة على تلبية طلباته كافة لإحساسها بقرب فراقه الصعب على قلبها، مؤكدةً أنها وأسرتها عاشوا حالة من القلق على نجلهم الشهيد “علي” لاسيما عندما كان يتأخر عن البيت، أو عندما تحدث عملية استهداف لإحدى مجموعات المقاومة، فتبادر الأسرة جميعها بالاتصال به للاطمئنان عليه.
فراقه صعب
بينما أكد شقيقه البكر محمد على متانة العلاقة التي كانت تربطهما ببعض، لافتاً إلى أنه وشقيقه الشهيد كانا يدرسان ذات التخصص في نفس الجامعة، الأمر الذي عمّق من علاقتيهما ببعضهما وجعلهما أكثر تقرباً عن سائر أفراد الأسرة.
وتطرق محمد خلال حديثه إلى عديدٍ من المواقف الطريفة التي كانت تدور بينه وبين شقيقه الشهيد، مؤكداً أن فراق “علي” كان صعباً للغاية عليه، قائلاً: “لقد ترك فراغاً كبيراً في حياتي وجرحاً غائرا لن تشفيه تقلبات الأيام والسنين”.
وأشار محمد إلى ما كان يتمتع به الشهيد “علي” من قدرة على الإقناع على مستوى الحوارات والنقاشات مع والده وأشقائه وزملائه في الجامعة، مستذكراً بعض الكلمات التي كان يرددها: “الجنة ليست لمن سبق ولكن لمن صدق”.
مشواره الجهادي
كما أن لكلّ شهيدٍ فلسطيني حكاياته مع حب الوطن وعشق مقدساته فإن لعلي حكاياته الخاصة، كما يوضح رفيقه في سرايا القدس أبو يوسف، حيث يقول: “كان الشهيد علي سبّاقا في أي عمل جهادي، وكثيراً ما كان هو الذي يرصد ويخطط وينفذ بنفسه الخطط العسكرية بعد إقرارها من قيادته”.
وأضاف: “منذ التحاقه بصفوف سرايا القدس في أواخر عام 2002م، لم يضيع (علي) يوماً واحدا دون أن يشارك في عمل جهادي ضد الاحتلال”.
أما عن أهم الأعمال التي شارك فيها الشهيد “علي”، فأكد أبو يوسف أن سجله الجهادي حافل بالعمليات الجهادية، متمثلةً في قصف المغتصبات الصهيونية بالصواريخ، ورصد تحركات آليات العدو على طول الحدود، وتنفيذ عديدٍ من العمليات الهجومية ضد أهداف الاحتلال، بالإضافة إلى المشاركة الفاعلة في صد الاجتياحات والتوغلات.
وأوضح أبو يوسف أن الشهيد كان من أبرز الشخصيات الجهادية التي تعرف عليها خلال عمله الجهادي، مشيراً إلى مدى حرص الشهيد منذ اللحظات الأولى لانضمامه إلى صفوف حركة الجهاد على السرية والكتمان.
وقال أبو يوسف “الشهيد علي هو من رصد لعمليته الأخيرة، ووضع خطة الهجوم التي أقرها المجلس العسكري الذي كان يرأسه الشهيد القائد بشير الدبش”، مؤكداً أن خللا فنيا غير متوقع حدث خلال التنفيذ، ساهم بشكل ما في تغيير مسار العملية.
استشهاده
مع إرهاصات مساء يوم الأحد 1-8- 2004 م، كان الشهيد علي ورفيقه الشهيد محمد مطر -ابن كتائب شهداء الأقصى- على موعد مع الشهادة ، حينما نصب الشهيدان مجموعة من الألغام الأرضية في طريق رتل للآليات الصهيونية كانت تمر في هذا الطريق متوجهة للغدة البائدة “نتسانيت” شمال قطاع غزة، غير أن خللا فنيا حدث بعد الانتهاء من نصب العبوات الناسفة كشف الاستشهاديين لأحد المواقع العسكرية، لتدور معركة عنيفة شاركت فيها المدرعات الصهيونية والطائرات الحربية التي قصفت المنطقة بكثافة، ليرتقي الشهيدان بعد نصف ساعة من الاشتباك إلى العلياء مع الشهداء والصديقين، وقد اعترف العدو بمقتل أحد جنوده وإصابة سبعة آخرين.