القائد سلامة محارب عبد الله عابد
زاره الشوق لصغيره المدلل “بهاء”، ولم يكن يعرف سلامة عابد، سر المشاعر التي ازدحمت في قلبه فجأة لعائلته، ربما لأنه غائب عن بيته منذ أيام ولا فرص أمامه للعودة في هذا الوقت، فاتصل بزوجته “إسراء” وطلب منها سماع صوتهم.
تقافزت أصوات الأطفال الأربعة “عمر، ولانا، ولارا، وبهاء” من سماعة الهاتف، أخبروا والدهم أنهم يشتاقون له ثم سألوه: “بابا متى مروح؟”، أجابهم بنبرةٍ غلّفها الحب: “حبايبي إنتو.. يمكن المغرب”، ثم أغلق هاتفته، أما الصِغار فتجهّزوا لـ “اللعب والنط مع بابا” مساءً.
اتصالٌ آخر بعد ساعة، تلقاه “سلامة” من زوج أخته “ثائر”، إذ طلب منه الأخير القدوم لمنزله والجلوس فيه، نظرًا لـ “خطورة الأوضاع الأمنية” رغم هدوئها ميدانيًا، فرد ممازحًا: “بكفيني.. أنا شبعت من الدنيا، بدي الآخرة”.
مرّت ساعة أخرى من يوم الجمعة الموافق الخامس من آب/ أغسطس 2022، حتى جاء وقت العصر، وبينما يعيش سُكان قطاع غزة يومًا عاديًا جدًا، قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباغت شقةً سكنية في برج فلسطين غرب المدينة، لتُعلن بعدها البدء بعملية عسكرية استمرت لثلاثة أيام.
شعور غريب انتاب عائلة “عابد” عند سماعهم خبر القصف، ما الذي يحدث ولِم هذا الخوف؟ وأين “سلامة” أصلًا؟ هل نجا هذه المرة أيضًا؟، أسئلة ظلت تحوم في تفكير كل فردٍ بالعائلة، دون أن يجرؤ أحد على الحديث بصوتٍ عالٍ عنها، علّ الغائب يعود بعد قليل ويهدأ بال الجميع!
لحظاتٌ خوف كانت بمقدار سنة، عاد بعدها “سلامة” كما وعد أطفاله، لكن هذه المرة مخضبًا بدمائه، محمولًا على الأكتاف، والأصوات غاضبة خلفه تردد “يا شهيد ارتاح ارتاح، واحنا نواصل الكِفاح”.
سلامة محارب عابد (39 عامًا) من سكان منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة، هو أبٌ لأربعة من الأطفال، أصغرهم “بهاء” لم يتجاوز عمره العامين ونصف، وكان قد سمّاه تيمنًا بالقيادي البارز في سرايا القدس بهاء أبو العطا، الذي استُشهد بعملية اغتيال إسرائيلية في نوفمبر/ تشرين ثاني 2019.
طارده الموت مذ كان صغيرًا..
كان الموت قريبًا من “سلامة” منذ صغره تقول شقيقته “إسلام”: “في عمر السادسة تعرض لركلة حصان قاتلة، رقد على إثرها في المشفى لأشهر طويلة، وفي انتفاضة الأقصى عام 2000 أٌصيب برصاصة إسرائلية في رقبته، وعام 2004 أُصيب مرة أخرى أثناء تصديه لاجتياح إسرائيلي لحي الشجاعية، ومكث حينها بالعناية المكثفة 8 أشهر”.
وخلال العدوان على غزة سنة 2014، استهدف الاحتلال شقةً سكنية كان فيها “سلامة” برفقة الشهيدين القياديين بهاء أبو العطا وتيسير الجعبري، لكنّه نجا أيضًا، لينال مناه بالشهادة في أغسطس 2022، وفق ما تورده “إسلام”
تُخبرنا أن شقيقها كان محبوبًا بين الناس لا يكره أحد، عُرف بتواضعه وقُربه من البسطاء، كما أنه يتصف بـ “الحس الفكاهي” فلا تجده عابس الوجه مهما ساءت الظروف، مضيفةً: “كان ملاك على هيئة إنسان”.
شردت ضيفتنا بذهنها قليلًا ثم عادت لتُكمل: “يُحب الأطفال أيضًا، لا أنسى كيف كان يعتني بابني عبدالله، عندما كنت أذهب إلى الجامعة (..) من شدة حنانه عليه ورقته، كانوا يروه أنه مهتم به أكثر مني”.
“عندما سمعت خبر القصف، خفت كثيرًا، وأحسست بأن هناك ما ينتظرنا بعد قليل”، تقول “إسلام” ذلك وحشرجة البكاء تخنق صوتها، وكان ما شعرت به حقًا، لقد استشهد “سلامة” برفقة تيسير الجعبري (50 عامًا) قائد المنطقة الشمالية بسرايا القدس.
بالرغم من معرفة العائلة بعمل “سلامة” الجهادي طوال السنين الماضية، لكنهم لم يجهّزوا أنفسهم لفاجعة الرحيل، تسترسل شقيقته: “لم يخطر على بالنا يومًا، أن يُصبح سلامة ومواقفه معنا، وضحكاته ذكرى، كنّا نرى الموت بعيدًا، بينما كان يراه هو أقرب ما يكون إليه”.
صديق أطفاله وحبّهم الأول..
“هذا طريقه أعرفه جيدًا، لذا كنت أستودعه لله في كل وقتٍ وحين”، بهذه الكلمات بدأت “إسراء” حديثها عن زوجها الشهيد “سلامة”، بينما بدت صدمة الفقد واضحةً على ملامحها، والنساء حولها يواسينها في مصابها.
تقول “إسراء” “كان يُحدثني دائمًا عن هذا اليوم، ويحكي لي عن أمنيته في الشهادة، لذا كنت أتوقع أن يعود لي محمولًا على الأكتاف في أي لحظة.. لكنّ ألم الفراق صعب، صعب جدًا، كجمرة من نار تتقد في أرواحنا”.
وفي وصفها لعلاقته بها وبأطفالها تتحدث: “لم يكن زوجًا أو أبًا فحسب بل كان صديقًا لنا قريبًا منّا، يُحبّ أن يرانا سعداء، ويفعل لأجل ذلك كل ما بوسعه”، مستطردةً: “على سبيل المثال لم أعهد عليه أن ضرب أولادنا ولو عن طريق المزح، دائمًا يغلبه الحنان وحبّه الكبير لهم”.
وفي سؤالنا عن صورٍ تجمع الشهيد بأطفاله لإرفاقها بالتقرير، تُشير إلى أن “سلامة” من الشخصيات التي لا تُحب الظهور، لذا لم يُكن يُفضّل التصوير، وبالكاد استطاعت عائلته إيجاد بعض اللقطات له،
ولا تنسى “إسراء” كيف كان يبحث عن الأمان بشتى الوسائل وقت الحروب، ليُخرج أطفاله من أجواء الخوف والقلق _والكلام لها_: “يقضى الوقت معهم باللعب، والغناء، والمسابقات، يُصبح طفلًا برفقتهم المهم أن يكونوا بخير وطمأنينة”.
وعند الحديث عن لحظة الوداع، سكت صوت “إسراء” وتكلّم دمعها: “جاء اليوم الذي أودّع فيه سلامة شهيدًا، لأستقبل حياةً أخرى بعده بقلبٍ يفطره الوجع لكنه مُحتسب”، أما أطفاله فستظّل أمهم عاجزة عن الإجابة على سؤالهم: “ليش بابا ما أجى اشتقناله!”.
يُذكر أن العدوان الإسرائيلي الأخير، أسفر عن ارتقاء 45 شهيدًا في قطاع غزة، بينهم 15 طفلاً وأربع نساء، وإصابة 360 آخرين.